سورة الطارق - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الطارق)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {والسماءِ والطارقِ}، عظّم تعالى قَدْر السماءِ في أعين الخلق؛ لكونها معدن رزقهم، ومسكن ملائكته، وفيها خلق الجنّة، فأقسم بها وبالطارق، والمراد: جنس النجوم، أو جنس الشهُب التي يُرجم بها، لعِظم منفعتها، ثم عظَّمه ونوّه به، فقال: {وما أدراك ما الطارقُ} بعد أن فخّمه بالإقسام به، تنبيهاً على رفعة قدره بحيث لا يناله إدراك الخلق، فلا بد من تلقَّيه من الخلاّق العليم، أي: أيّ شيء أعلمك بالطارق، ثم فسّره بقوله: {النجمُ الثاقبُ}؛ المضيء، فكأنّه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه، ووصف بالطارق لأنه يبدو بالليل، كما يُقال للآتي ليلاً: طارق، أو: لأنه يطرق الجنِّيَّ، أي: يُصكّه. وقيل: المراد به كوكب معهود، قيل: هو الثريا، وقيل زُحل، وقيل الجدي.
ثم ذكر المقسَم عليه، فقال: {إِن كُلُّ نفسٍ لمَّا عليها حافظٌ}، {إن} نافية، و{لمّا} بمعنى {إلاّ} في قراءة مَن شدّدها، وهي لغة هذيل يقولون: نشدتك الله لمّا قمت أي: إلاّ قمت، أي: ما كل نفس إلاّ عليها حافظ مهيمن رقيب، وهو الله عزّ وجل، كما في قوله تعالى: {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً} [الأحزاب: 52] أو: مَن يحفظ عملها، ويحصي عليها ما تكسب من خير أو شر كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10] أو: مَن يحفظها من الآفات، ويذب عنها كما في قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} [الرعد: 11]، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «وكِّل بالمؤمن ستون ومائة ملك، يذبون عنه ما لم يُقدّر عليه، كما يذب عن قصعة العسل الذبابَ، ولو وكل المرء إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين» ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {إن كل نَفْس..} إلخ. و{ما}: صلة في قراءة من خفف، أي: إنه، أي: الأمر والشأن كل نفس لعليها حافظ.
{فلينظر الإنسانُ مِمَّ خُلق}، لمّا ذكر أنَّ على كل نفسٍ حافظاً، أمره بالنظر في أوّل نشأته، وبالتفكُّر فيها حق التفكُّر، حتى يتضح له أنَّ مَن قَدَر على إنشائه من موادٍ لم تشم رائحة الحياة قط، فهو قادر على إعادته، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء ما ينفعه يومئذٍ ويُجزى به، ولا يملي على حافظه ما يُرديه، فالفاء فصيحة تُنبىء عن هذه الجُمل، أي: إذا علم أنَّ على كل إنسان حفظة يحفظونه من الآفات، أو يكتبون أعماله، خيره وشرها، دقيقها وجليلها، وأنه لم يُخلَق عبثاً، ولم يُترك سُدى، فلينظر في أول نشأته حتى يتحقق أنَّ له صانعاً، فيعبده ولا يشرك به شيئاً، ثم فسَّر أصل نشأته فقال: {خُلق من ماء دافقٍ}، فهو استئناف بياني، كأنه قيل: مِمَّ خُلق؟ فقال: خُلق من ماء دافق، والدفق: صبٌّ فيه دفعٌ وسرعة، والدفق في الحقيقة لصاحبه، والاستناد إلى الماء مجاز، ولم يقل: من ماءين؛ لامتزاجهما في الرحم واتحادهما.
{يَخرج من بين الصُلب والترائب} أي: صُلب الرجل وترائب المرأة، وهي عِظام صدرها، حيث تكون القلادة، وقيل: العظم والعصب من الرَجل، واللحم والدم من المرأة، وقال بعض الحكماء: إنَّ النظفة تتولد من فضل الهضم الرابع، وتنفصل عن جميع الأعضاء، حتى تستعد لأنّ يتولّد منها مثل تلك الأعضاء ومقرها عروق مُلتف بعضها على بعض عند البيضتيْن، فالدماغ أعظم معونة في توليدها، ولذلك كان الإفراط في الجماع يُورث الضعف فيه، وله خليفة هو النخاع، وهو في الصلب، وفيه شُعب كثيرة نازلة إلى الترائب، وهما أقرب إلى أوعية المَني، فلذا خُصّا بالذكر، فالمعنى على هذا: يخرج من بين صلب الرجل وترائبه وصلب المرأة وترائبها، وهو الأحسن، وبه صدر ابن جزي.
{إِنه} أي: الخالق، لدلالة {خُلِق} عليه، أي: إنَّ الذي خلق الإنسانَ ابتداء من نُطفة، {على رَجْعِه}؛ على إعادته بعد موته {لقادرٌ} بيّن القدرة. وجِيء ب إنّ واللام وتنكير الخبر ليدل على رد بليغ على مَن يدّعي أنه لا حشر ولا بعث، حتى كأنه لا تتعلق القدرة بشيء إلاَّ بإعادة الأرواح إلى الأجساد، {يومَ تُبلى السرائرُ} أي: تكشف ويُتصفَّح ما فيها من العقائد والنيات وغيرها، وما أخفي من الأعمال، ويتبين ما طاب منها وما خبث. والسرائر: القلوب، هو ظرف ل {رَجْعِه}، أي: إنه لقادر على رده بالبعث في هذا اليوم الذي تُفضح فيه السرائر، {فما له مِن قوةٍ} في نفسه يمتنع بها {ولا ناصرٍ} ينتصر به ويدفع عنه غير الله تعالى. ولمّا كان رفع المكان في الدنيا إمّا بقوة الأنسان، وإمّا بنصر غيره له، أخبر الله بنفيهما يوم القيامة.
الإشارة: أقسم تعالى بقلب العارف، لأنه سماءٌ لشمس العرفان وقمرِ الإيمان ونجوم العلم، وبما يطرقه من الواردات الإلهية والنفحات القدسية ثم نوّه بذلك الطارق، فقال: {وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب} أي: هو نجم العلم الثاقب لظلمة الجهل، إمّا جهل الشرائع أو جهل الحقائق. إن كُلُّ نفس لمّا عليها حافظ، وهو الله، فإنه رقيب على الظواهر والبواطن، ففيه حث على تدقيق المراقبة ظاهراً وباطناً. فلينظر الإنسانُ مِمَّ خُلق في عالم الحكمة من جهة بشريته خُلق من ماء دافق، يخرج من محل البول ويقع في محل البول، فإذا نظر إلى أصل بشريته تواضع وانكسر، وفي ذلك عِزُّه وشرفُه، مَن تواضع رفعه الله. وفيه روح سماوية قدسية، إذا اعتنى بها وزكّاها، نال عز الدارين وشرف المنزلين مَن عرف نفسه عرف ربه فالإنسان من جهة بشريته أرضي، ومن جهة روحانيته سماوي، والحُكم للغالب منهما. إنه على رجعه: أي: رده إلى أصله، حين برز من عالم الغيب، بظهور روحه، لقادر، فيصير روحانيًّا سماويًّا، بعد أن كان بشريًّا أرضيًّا، وذلك يوم تُبلى السرائر بإظهار ما فيها من المساوىء، ليقع الدواء عليها، فتذهب، فمَن لم يَفضح نفسه لم يظفر بها، فما لها من قوةٍ على جهادها وإظهار مساوئها بين الأقران إلاّ بالله، ولا ناصر ينصره على الظفر بها إلاَّ مِن الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.


يقول الحق جلّ جلاله: {والسماءِ ذات الرجع} أي: المطر، لأنه يرجع حيناً بعد حين، وسمَّته العرب بذلك تفاؤلاً، {والأرضِ ذات الصَّدْع} أي: الشق، لأنها تنصدع عن النبات والأشجار لا بالعيون كما قيل، فإنَّ وصف السماء بالرجع، والأرض بالشق، عند الإقسام بها على حقيّة القرآن الناطق بالبعث؛ للإيماء إلى أنهما في أنفسهما من شواهده، وهو السر في التعبير عنه بالرجع والصدع، لأنَّ في تشقُّق الأرض بالنبات محاكاة للنشور، حسبما ذكر في مواضع من القرآن، لا في تشققها بالعيون. {إِنه} أي: القرآن {لَقَولٌ فَصْلٌ}؛ فاصل بين الحقّ والباطل، كما قيل له: فرقاناً، وصفَه بالمصدر، كأنه نفس الفعل، {وما هو بالهزلِ} أي: ليس في شيء منه شائبة هزل، بل كله جد محض، ومِن حقه حيث وصفه الله بذلك أن يكون مُهاباً في الصدور، معظماً في القلوب، يرتفع به قارئه وسامعه، ويهتدي به الغواة، وتخضع له رقاب العُتاة.
{إِنهم} أي: أهل مكة {يَكيدون} في إبطال أمره، وإطفاء نوره {كيداً} على قدر طاقتهم {وأكيدُ كيداً} أي: أقابلهم بكيد متين لا يمكن رده، فأسْتدرجهم إلى الهلاك من حيث لا يعلمون. فسمي جزاء الكيد كيداً، كما سمي جزاء الاعتداء والسيئة اعتداءً وسيئة، وإن لم يكن اعتداءً وسيئة، ولا يجوز إطلاق هذا الوصف على الله تعالى إلاَّ على وجه المشاكلة، كقوله: {يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] إلى غير ذلك {فَمَهِّل الكافرين} أي: لا تدع بهلاكهم، ولا تشغل بالانتقام منهم، بل اشتغل بالله يكفِك أمرهم {أمهِلهم رُويداً} أي: إمهالاً يسيراً، ف {أمهِلهم}: بدل من مَهِّل، وخالف بين اللفظتين لزيادة التسكين والتصبير. و{رويداً}: مصدر أرود بالترخيم، ولا يتكلم به إلاَّ مصغراً، وله في الاستعمال وجهان آخران: كونه اسم فعل، نحو رُويد زيداً، وكونه حالاً، نحو: سار القوم رويداً، أي: متمهلين.
الإشارة: اعلم أنَّ الحقيقة سماء، والشريعة أرض، والطريقة سُلّم ومعراج يصعد إليها، فمَن لا طريقة له لا عروج له إلى سماء الحقائق، فأقْسَم تعالى بسماء الحقائق، وأرض الشرائع، على حقيّة القرآن، ووصف الحقيقة بالرجع لأنه يقع الرجوع إليها بالفناء، ووصف أرض الشريعة بالصَدْع؛ لأنها تتصدّع عن علوم وأنوار تليق بها، ووصف القرآن بالفصل بين الحق والباطل، فمَن طلب الحق من غيره أضلّه الله. ووصفه أيضاً بالجدّ غير منسوب لشيء من الهزل، فينبغي للقارىء عند تلاوته أن يكون على حال هيبة وخشوع، لا يمزج قراءته بشيء من الهزل أو الضحك، كما يفعله جهلة القراء.
ثم أمر بالغيبة عن الأعداء، والاشتغال بالله عنهم بقوله: {فَمَهِّل الكافرين أمهلهم رويداً}، قال بعض العارفين: لا تشتغل قط بمَن يؤذيك، واشتغل بالله يرده عنك، فإنه هو الذي حرَّكه عليك ليختبر دعواك في الصدق، وقد غلط في هذا خلق كثير، اشتغلوا بإذاية مَن آذاهم، فدام الأذى مع الإثم، ولو أنهم رجعوا إلى الله لكفاهم أمرهم. اهـ.
وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.